التشكيلات القضائية: صدقة أم زكاة
المحامي رفيق اورى غريزي
عشية 16 نيسان 2020، وجّه رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب كلمة الى اللبنانيين استهلّها بالقول “لأنّني أؤمنُ بالدّولة العادلة. الدولة التي لا مكانَ فيها للحساباتِ الشخصية والفِئوية. الدولة التي يَسودُ فيها منطقُ المؤسسات، وتَتَعزَّزُ فيها استقلاليةُ القضاء المسؤول.
وقَّعتُ اليوم مرسومَ التشكيلاتِ القضائيةِ للقُضاةِ العدليين الذي وردني.”
اذا، وبعد مخاض عسير، تم توقيع مرسوم التشكيلات القانونية.
قبل ذلك، كان مجلس القضاء الأعلى قد وضع التشكيلات القضائية وأحالها الى معالي وزيرة العدل التي رفضت التوقيع عليه. ثم فيما بعد وبعد اصرار مجلس القضاء الأعلى على التشكيلات القضائية التي كان قد أعدّها، وقعتها معالي وزيرة العدل مع بعض الملاحظات والتحفظات.
قدر اللبنانيين أن يعيشوا هذه الدوامة عند كل استحقاق! لأن في لبنان ليس هنالك من مؤسسات، بل هناك “تشخيص” للمؤسسات!
والسؤال المطروح أبعد ما يمكن من مسألة التشكيلات القضائية، بل هو هل فعلا تريد الطبقة السياسية في لبنان سلطة قضائية مستقلة؟
هل يعترفون أصلا أن القضاء سلطة؟!
هل يعترفون أن القضاء سلطة مستقلة وهي الركيزة الثالثة الأساسية التي يقوم عليها النظام اللبناني والمتساوية في القوة والمكانة والهيبة والمنعة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية، لا وبل تتفوق على السلطتين الأخيرتين كونها هي المولجة بالمحاسبة؟!
ان موضوع استقلالية السلطة القضائية ليس مسألة موسمية عابرة، بل هو مشروع نضال طويل لا ينتهي الحديث عنه الا عند تكريس بالفعل ما كرّسه الدستور بالنص على أن القضاء سلطة مستقلة.
فالدستور اللبناني في المادة 20 منه قد نصّ على أنّ “السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها ضمن نظام ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاء وللمتقاضين الضمانات اللازمة.
اما شروط الضمانة القضائية وحدودها فيعينها القانون. والقضاة مستقلون في اجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل كل المحاكم وتنفذ باسم الشعب اللبناني”
ويلاحظ أن الدستور اللبناني اعتمد تسمية السلطة القضائية، وكما نصّ في الفقرة الثانية من المادة المذكورة على استقلالية القضاة.
وكما أن الفقرة (هـ) من مقدمة الدستور اللبناني المعدلة بالقانون الدستوري رقم 18 والقائلة بأن النظام قائم على مبدأ فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، قد كرس أيضا هذه الاستقلالية.
في حين نصت المادة الأولى من قانون أصول المحاكمات المدنية على أنّ القضاء سلطة مستقلة تجاه السلطات الاخرى في تحقيق الدعاوى والحكم فيها، لا يحد من استقلالها أي قيد لا ينص عليه الدستور.
الا أنه وعلى الرغم من أن الدستور والقانون كرسا مبدأ أن القضاء سلطة، لا وبل سلطة قضائية مستقلة تجاه باقي السلطات، الا أن مبدأ المناقلات والتشكيلات القضائية أمر يعكس هيمنة السلطة التنفيذية وتدخلها في هذه المسألة التي قد تؤدي الى التأثير على هذه الاستقلالية عبر التدخل في الجسم القضائي وتحديد مراكزه والتدخل في توزيع الأعمال.
وفي هذا المجال، تنص الفقرة “ب” من المادة 5 من قانون القضاء العدلي كما تعدلت بالمادة الثانية من القانون رقم 389 تاريخ 21/12/2001 (تعديل قانون القضاء العدلي) على ما يلي:
“لا تصبح التشكيلات نافذة الا بعد موافقة وزير العدل.
– عند حصول اختلاف في وجهات النظر بين وزير العدل ومجلس القضاء الاعلى تعقد جلسة مشتركة بينهما للنظر في النقاط المختلف عليها.
– إذا استمر الخلاف ينظر مجلس القضاء الاعلى مجددا في الامر للبت فيه ويتخذ قراره بأكثرية سبعة اعضاء ويكون قراره في هذا الشأن نهائيا وملزما.
– تصدر التشكيلات القضائية وفقا للبنود السابقة بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل.”
وهذا يعني أنّه على وزير العدل ان يقترح مشروع التشكيلات كما هو معروض من مجلس القضاء الاعلى، بعد ان يكون قد وافق وزير العدل عليه، اما موافقة صريحة، او موافقة حكمية بنتيجة بت الخلاف من قبل مجلس القضاء الاعلى كما سبق وصفه.
يبقى ان “لا تشكيلات قضائية ممكنة قانونا في لبنان دون صدورها بمرسوم رئاسي عادي.”
(يراجع بهذا الشأن كتاب آراء في الدستور للمؤلف القاضي سليم جريصاتي، المنشورات الحقوقية صادر، الطبعة الاولى 2010 من ص 317 الى 321.)
ما يعني أنه بعد انتهاء مرحلة اقرار التشكيلات القضائية بين وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى، يقتضي اصدار مرسوم التشكيلات القضائية على شكل مرسوم عادي يوقع عليه كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ووزير العدل، وانّ رئيس الجمهورية غير مقيد بمهلة بهذا الشأن.
وهذا ما يشكل مخالفة ثانية لمبدأ فصل السلطات ولاستقلالية السلطة القضائية وما يستوجب معه المسارعة الى اقرار قانون استقلالية السلطة القضائية لكي تصبح التشكيلات القضائية بمنأى عن المناكفات والاستغلال والابتزاز من قبل السلطة التنفيذية.
وحيث أنّ هيئة التشريع والاستشارات في الاستشارة رقم 696/2006تاريخ 17/11/2006 (الهيئة: الرئيس شكري صادر والقاضيان انطوان بريدي وجويل فواز)، موضوع الاستشارة (إبداء الرأي بمدى تمتع السلطة المخولة اصدار مرسوم التشكيلات القضائية بصلاحية مقيدة اواستنسابية)، نصت ما حرفيته:
” وحيث ان الفقه والإجتهاد يجمعان على القول بان السلطة تتمتع بصلاحية مقيدة في كل مرة يلزمها القانون بأن تتخذ قراراً ما على نحو معين دون ان يترك لها اي هامش او حرية في الإختيار بين عدة احتمالات.
وحيث يترتب على تعريف الصلاحية المقيدة على الوجه آنف الذكر، ان قراراً واحداً- هو ذاك الذي الزم القانون الإدارة او السلطة باتخاذه- يكون مشروعاً، متوافقاً وحكم القانون، وكل قرار آخر تتخذه الإدارة او السلطة خلافاً لما الزمها به القانون يكون مخالفاً للقانون.
هذا بالنسبة الى الصلاحية المقيدة،”
وفي مكان آخر من الاستشارة نفسها، ورد ما يلي:
“- ان التشكيلات القضائية باتت مقيدة بان تصدر- يقول المشترع- وفقاً للبنود السابقة، اي وفقاً لما يكون مجلس القضاء الأعلى قد بتّه بقرار نهائي وملزم،
ولم تعد التشكيلات تصدر بموجب مرسوم وفقاً لما يكون مجلس الوزراء قد بت به، كما كان عليه الوضع قبل التعديل.
5- وان هذا التعديل التشريعي الذي دخل على قانون القضاء العدلي، سواءً في مادته (2) لجهة انتخاب بعض اعضاء مجلس القضاء الأعلى، او في مادته (5) لجهة انتزاعه صلاحية البت بالتشكيلات القضائية من مجلس الوزراء وإيلائها صراحة بمجلس القضاء الأعلى يبت بها بقرار نهائي وملزم، ملزم لهذا المجلس قبل ان يكون ملزماً للسلطة المخولة اقتراح والتوقيع على مرسوم التشكيلات القضائية،
…وحيث لا يعقل ان يكون المشترع بتركه سلطة البتّ بالتشكيلات القضائية من يدّ سلطة دستورية هي مجلس الوزراء لإعطائها حصراً الى مجلس القضاء الأعلى، قد اعطى من له صلاحية اصدار المرسوم سلطة أكبر من تلك التي انتزعت من مجلس الوزراء بكامله.
وحيث ان القرار الذي يتخذه مجلس القضاء الأعلى بأكثرية سبعة اعضاء، ويبت به الخلاف بينه وبين وزير العدل- وهو صلة وصل السلطة الإجرائية الى القضاء ولكن فقط ضمن دائرة ما ينص عليه القانون – ان هذا القرار يكون نهائياً وملزماً.
وحيث ان قرار مجلس القضاء الأعلى النهائي بالبت بالخلاف بينه وبين وزير العدل، يعني- بلغة القانون- انه قد فصل في أصل او اساس او مضمون الخلاف، مما يترتب عليه اخراج القضية من يد المجلس، تماماً كما في القرارات القضائية.
وحيث ان قرار مجلس القضاء الأعلى، هو اذاً ملزم، وتصدر التشكيلات- يقول المشترع- وفقاً لمضمونه.
وحيث اذا كان قرار مجلس القضاء الأعلى قراراً نهائياً، بتّ في موضوع التشكيلات واخرج القضية من يده، وهو اصبح ملزماً للمجلس الذي اتخذه.
فمن الطبيعي القول ان صفة الالزام تمتد الى كل شخص من الأشخاص الذين يتشاركون في التوقيع على مرسوم التشكيلات القضائية (contreseing)، ما دام ان كل واحد من هؤلاء ملزم بسلوك المسلك الذي خطط له المشترع (وجوب ان يصدر مرسوم التشكيلات القضائية وفقاً للبنود السابقة، اي وفقاً للقرار النهائي والملزم الصادر عن مجلس القضاء الأعلى) وما دام- ايضاً وايضاً- وكنتيجة منطقية لصفة النهائي والملزم- ان المشترع لم يضع اية آلية قانونية تسوّغ ان يضع مجلس القضاء الأعلى يده على القضية مجدداً للنظر بها.
ومن جهة ثانية،
وحيث اذا كان مرسوم تسمية رئيس مجلس الوزراء يصدر بالإستناد ووفقاً للإستشارات النيابية الملزمة (المادة 53 دستور)،
فمن باب أول ان يصدر مرسوم التشكيلات القضائية- ضمن المهلة المعقولة- بالإستناد ووفقاً- ليس لإستشارات، وان ملزمة- بل بالإستناد ووفقاً للقرار النهائي والملزم الذي يكون مجلس القضاء الأعلى قد اتخذه.
وخلاصة القول ان صلاحية السلطة المخولة اصدار مرسوم التشكيلات القضائية بالإستناد الى البند ما قبل الأخير من الفقرة (ب) من المادة (5) من المرسوم الإشتراعي رقم 150/83 المعدل، وصلاحية كل واحد من أعضائها، هي صلاحية مقيدة.”
(هيئة التشريع والاستشارات، الاستشارة رقم 696\2006، تاريخ 17\11\2006 – البوابة الالكترونية صادر)
وحيث أنه وبناء لما ورد أعلاه، بحيث يتبين أن صلاحية اصدار مرسوم التشكيلات القضائية هي صلاحية مقيدة وليست صلاحية استنسابية،
وحيث أنه وبالنسبة الى ما أشيع عن فخامة رئيس الجمهورية أنه وصله مرسوم التشكيلات القضائية وأنه لن يوقعه بل سيطلب اجراء تعديلات عليه،
وحيث أن صلاحية رئيس الجمهورية باصدار هذا المرسوم هي صلاحية مقيدة، وأنه لا يحق لرئيس الجمهورية بأي شكل من الأشكال طلب اجراء تعديلات عليه طالما أن القرار الأخير بالمضمون كان لمجلس القضاء الأعلى وقد اتخذ قراره فعلا،
وحيث أننا نعتبر أن الدستور كرس الاستقلالية للسلطة القضائية واعتبرها سلطة بكل ما للكلمة من معنى،
وحيث أنّه وعلى الرغم من ذلك ومن وضوح النص القانوني والدستوري عمدت وزيرة العدل الى مخالفة القانون من خلال مقاربتها لملف التشكيلات القضائية، ومن ثمّ أتى كلام رئيس الحكومة بشأن التوقيع على التشكيلات القانونية وكأنها صدقة،
في حين أن أصداء رئيس الجمهورية ترجح امكانية عدم توقيعه لمرسوم التشكيلات القضائية وانما طلب اجراء تعديلات عليه، في حين أنّه لا يحق له ذلك دستوريا،
أمام هذا الواقع بات ملحا أكثر من أي وقت مضى أن يطلق العنان للقضاء لكي يمارس دوره باستقلالية تامة دون ضغط أو ابتزاز في ان يعين نفسه وأن ينقح جسمه القضائي وأن يرتب شؤونه الداخلية دون أي منة أو أي تدخل من أي أحد.
فلا يعقل ولا تحتمل البلاد أصلا أن تأخذ التشكيلات القضائية كل هذا الأخذ والرد.
وبالتالي، فان المدخل الجذري لكل الحلول يكون باقرار قانون واضح لا لبس فيه يقر بالاستقلالية التامة للسلطة القضائية.
السلطة القضائية تحتاج الى ترجمة ما نص عليه الدستور بأفعال وباقرار قوانين تكرس الحالة المكرسة دستوريا، ولا تحتاج الى صدقة أو منة من السلطات الأخرى مهما علا شأنها!!